فصل: سنة سبع عشرة وأربعمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر وفاة مشرف الدولة وملك أخيه جلال الدولة:

في هذه السنة، في ربيع الأول، توفي الملك مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة بمرض حاد، وعمره ثلاث وعشرون سنة وثلاثة أشهر، وملكه خمس سنين وخمسة وعشرون يوماً، وكان كثير الخير، قليل الشر، عادلاً، حسن السيرة، وكانت والدته في الحياة، وتوفيت سنة خمس وعشرين.
ولما توفي مشرف الدولة خطب ببغداد، بعد موته، لأخيه أبي طاهر جلال الدولة، وهو بالبصرة، وطلب إلى بغداد، فلم يصل إليها، وإنما بلغ إلى واسط وأقام بها، ثم عاد إلى البصرة، فقطعت خطبته، وخطب لابن أخيه الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة في شوال، وهو حينئذ صاحب خوزستان، والحرب بينه وبين عمه أبي الفوارس، صاحب كرمان، بفارس، فلما سمع جلال الدولة بذلك أصعد إلى بغداد، فانحدر عسكرها ليردوه عنها، فلقوه بالسيب من أعمال النهروان، فردوه فلم يرجع، فرموه بالنشاب، ونهبوا بعض خزائنه، فعاد إلى البصرة، وأرسلوا إلى الملك أبي كاليجار ليصعد إلى بغداد ليملكوه، فوعدهم الإصعاد، ولم يمكنه لأجل صاحب كرمان، ولما أصعد جلال الدولة كان وزيره أبا سعد بن ماكولا.

.ذكر ملك نصر الدولة بن مروان مدينة الرها:

وفي هذه السنة ملك نصر الدولة بن مروان، صاحب ديار بكر، مدينة الرها.
وكان سبب ملكها أن الرها كانت لرجل من بني نمير يسمى عطيراً، وفيه شر وجهل، واستخلف عليها نائباً له اسمه أحمد بن محمد، فأحسن السيرة، وعدل في الرعية، فمالوا إليه.
وكان عطير يقيم بحلته، ويدخل البلد في الأوقات المتفرقة، فرأى أن نائبه يحكم في البلد، ويأمر وينهى، فحسده، فقال له يوماً: قد أكلت مالي، واستوليت على بلدي، وصرت الأمير وأنا النائب، فاعتذر إليه، فلم يقبل عذره وقتله. فأنكرت الرعية قتله، وغضبوا على عطير، وكاتبوا نصر الدولة ابن مروان ليسلموا إليه البلد، فسير إليهم نائباً كان له بآمد يسمى زنك، فتسلمها وأقام بها ومعه جماعة من الأجناد، ومضى عطير إلى صالح بن مرداس، وسأله الشفاعة له إلى نصر الدولة، فشفع فيه، فأعطاه نصف البلد، ودخل عطير إلى نصر الدولة بميافارقين، فأشار أصحاب نصر الدولة بقبضه، فلم يفعل وقال: لا أغدر به وإن كان أفسد، وأرجو أن أكف شره بالوفاء.
وتسلم عطير نصف البلد ظاهراً وباطناً، وأقام فيه مع نائب نصر الدولة. ثم إن نائب نصر الدولة عمل طعاماً ودعاه، فأكل وشرب، واستدعى ولداً كان لأحمد الذي قتله عطير، وقال: أتريد أن تأخذ بثأر أبيك؟ قال: نعم! قال: هذا عطير عندي في نفر يسير، فإذا خرج فتعلق به في السوق وقل له: يا ظالم قتلت أبي، فإنه سيجرد سيفه عليك، فإذا فعل فاستنفر الناس عليه واقتله وأنا من ورائك. ففعل ما أمره، وقتل عطيراً ومعه ثلاثة نفر من العرب.
فاجتمع بنو نمير وقالوا: هذا فعل زنك، ولا ينبغي لنا أن نسكت عن ثأرنا، ولئن لم نقتله ليخرجنا من بلادنا. فاجتمعت نمير، وكمنوا له بظاهر البلد كميناً، وقصد فريق منهم البلد، فأغاروا على ما يقاربه. فسمع زنك الخبر، فخرج فيمن عنده من العساكر، وطلب القوم، فلما جاوز الكمناء خرجوا عليه، فقاتلهم، فأصابه حجر مقلاع، فسقط وقتل، وكان قتله سنة ثماني عشرة وأربعمائة في أولها، وخلصت المدينة لنصر الدولة.
ثم إن صالح بن مرداس شفع في ابن عطير وابن شبل النميريين ليرد الرها إليهما، فشفعه وسلمها إليهما، وكان فيها برجان أحدهما أكبر من الآخر، فأخذ ابن عطير البرج الكبير، وأخذ ابن شبل البرج الصغير، وأقاما في البلد، إلى أن باعه ابن عطير من الروم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر غرق الأسطول بجزيرة صقلية:

في هذه السنة خرج الروم إلى جزيرة صقلية في جمع كثير، وملكوا ما كان للمسلمين في جزيرة قلورية، وهي مجاورة لجزيرة صقلية، وشرعوا في بناء المساكن ينتظرون وصول مراكبهم وجموعهم مع ابن أخت الملك. فبلغ ذلك المعز بن باديس، فجهز أسطولاً كبيراً: أربعمائة قطعة، وحشد فيها، وجمع خلقاً كثيراً، وتطوع جمع كثير بالجهاد، رغبة في الأجر، فسار الأسطول في كانون الثاني، فلما قرب من جزيرة قوصرة، وهي قريب من بر أفريقية، خرج عليهم ريح شديدة، ونوء عظيم، فغرق أكثرهم، ولم ينج إلا اليسير.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ظهر أمر العيارين ببغداد، وعظم شرهم، فقتلوا النفوس، ونهبوا الأموال، وفعلوا ما أرادوا، وأحرقوا الكرخ، وغلا السعر بها حتى بيع كر الحنطة بمائتي دينار قاسانية.
وفيها قبض جلال الدولة على وزيره أبي سعد بن ماكولا، واستوزر ابن عمه أبا علي بن ماكولا.
وفيها أرسل القادر بالله القاضي أبا جعفر السمناني إلى قرواش يأمره بإبعاد الوزير أبي القاسم المغربي، وكان عنده، فأبعده، فقصد نصر الدولة بن ميافارقين وقد تقدم السبب فيه.
وفيها توفي الوزير أبو منصور محمد بن الحسن بن صالحان، وزير مشرف الدولة أبي الفوارس، وعمره ست وسبعون سنة.
وقاضي القضاة أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي الشوارب، ومولده في ذي القعدة سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكان عفيفاً، نزهاً، وقيل توفي سنة سبع عشرة.
وبسيل ملك الروم، وملك بعده أخوه قسطنطين.
وفيها ورد رسول محمود بن سبكتكين إلى القادر بالله ومعه خلع قد سيرها له الظاهر لإعزاز دين الله العلوي، صاحب مصر، ويقول: أنا الخادم الذي أرى الطاعة فرضاً، ويذكر إرسال هذه الخلع إليه، وأنه سيرها إلى الديوان ليرسم فيها بما يرى، فأحرقت على باب النوبي، فخرج منها ذهب كثير تصدق به على ضعفاء بني هاشم.
وفيها توفي سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة، وكان كاتباً سديداً، وعمل دار الكتب ببغداد سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وجعل فيها أكثر من عشرة آلاف مجلد، وبقيت إلى أن احترقت عند مجيء طغرلبك إلى بغداد سنة خمسين وأربعمائة.
وفيها توفي عثمان الخركوشي، الواعظ النيسابوري، وكان صالحاً، خيراً، وكان إذا دخل على محمود بن سبكتكين يقوم ويلتقيه، وكان محمود قد قسط على نيسابور مالاً يأخذه منهم، فقال له الخركوشي: بلغني أنك تكدي الناس، وضاق صدري، فقال: وكيف؟ قال: بلغني أنك تأخذ أموال الضعفاء، وهذه كدية فترك القسط وأطلقه.
وفيها بطل الحج من العراق وخراسان. ثم دخلت:

.سنة سبع عشرة وأربعمائة:

.ذكر الحرب بين علاء الدولة والجوزقان:

في هذه السنة كانت حرب شديدة بين عساكر علاء الدولة بن كاكويه وبين الأكراد الجوزقان.
وكان سببها أن علاء الدولة استعمل أبا جعفر ابن عمه على سابور خواست وتلك النواحي، فضم إليه الأكراد الجوزقان، وجعل معه على الأكراد أبا الفرج البابوني، منسوب إلى بطن منهم، فجرى بين أبي جعفر وأبي الفرج مشاجرة أدت إلى المنافرة، فأصلح بينهما علاء الدولة، وأعادهما إلى عملهما.
فلم يزل الحقد يقوى، والشر يتجدد، فضرب أبو جعفر أبا الفرج بلت كان في يده فقتله، فنفر الجوزقان بأسرهم، ونهبوا وأفسدوا، فطلبهم علاء الدولة، وسير عسكراً، واستعمل عليهم أبا منصور ابن عمه أخا أبي جعفر الأكبر، وجعل معه فرهاذ بن مرداويج، وعلي بن عمران.
فلما علم الجوزقان ذلك أرسلوا إلى علي بن عمران يسألونه أن يصلح حالهم مع علاء الدولة، وقصده جماعة منهم، فشرع في الإصلاح، فطالبه أبو جعفر وفرهاذ بالجماعة الذين قصدوه ليسلمهم إليهما، وأرادا أخذهم منه قهراً، فانتقل إلى الجوزقان، واحتمى كل منهم بصاحبه، وجرى بين الطائفتين قتال غير مرة كان في آخره لعلي بن عمران والجوزقان، فانهزم فرهاذ، وأسر أبو منصور وأبو جعفر، ابنا عم علاء الدولة. فأما أبو جعفر فقتل قصاصاً بأبي الفرج، وأما أبو منصور فسجن. فلما قتل أبو جعفر علم علي بن عمران أن الأمر قد فسد مع علاء الدولة، ولا يمكن إصلاحه، فشرع في الاحتياط.

.ذكر الحرب بين قرواش وبني أسد وخفاجة:

في هذه السنة اجتمع دبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأبو الفتيان منيع بن حسان، أمير بني خفاجة، وجمع عشائرهما وغيرهم، وانضاف إليهما عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلد العقيلي.
وكان سببه أن خفاجة تعرضوا إلى السواد وما بيد قرواش منه، فانحدر من الموصل لدفعهم، فاستعانوا بدبيس، فسار إليهم، واجتمعوا، فأتاهم عسكر بغداد، فالتقوا بظاهر الكوفة، وهي لقرواش، فجرى بين مقدمته ومقدمتهما مناوشة.
وعلم قرواش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلاً جريدة في نفر يسير، وعلم أصحابه بذلك، فتبعوه منهزمين، فوصلوا إلى الأنبار، وسارت أسد وخفاجة خلفهم، فلما قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حلله، فلم يمكنهم الإقدام عليه، واستولوا على الأنبار، ثم تفرقوا.

.ذكر الفتنة ببغداد وطمع الأتراك والعيارين:

في هذه السنة كثر تسلط الأتراك ببغداد، فأكثروا مصادرات الناس، وأخذوا الأموال، حتى إنهم قسطوا على الكرخ خاصة مائة ألف دينار، وعظم الخطب، وزاد الشر، وأحرقت المنازل، والدروب، والأسواق، ودخل في الطمع العامة والعيارون، فكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره، كما يفعل السلطان بمن يصادره، فعمل الناس الأبواب على الدروب، فلم تغن شيئاً، ووقعت الحرب بين الجند والعامة، فظفر الجند، ونهبوا الكرخ وغيره، فأخذ منه مال جليل، وهلك أهر الستر والخير.
فلما رأى القواد وعقلاء الجند أن الملك أبا كاليجار لا يصل إليهم، وأن البلاد قد خربت، وطمع فيهم المجاورون من العرب والأكراد، راسلوا جلال الدولة في الحضور إلى بغداد، فحضر، على ما نذكره سنة ثماني عشرة وأربعمائة.

.ذكر إصعاد الأثير إلى الموصل والحرب الواقعة بين بني عقيل:

في هذه السنة أصعد الأثير عنبر إلى الموصل من بغداد.
وكان سببه أن الأثير كان حاكماً في الدولة البويهية، ماضي الحكم، نافذ الأمر، والجند من أطوع الناس له، وأسمعهم لقوله. فلما كان الآن زال ذلك، وخالفه الجند، فزالت طاعته عنهم، فلم يلتفتوا إليه، فخافهم على نفسه، فسار إلى قرواش، فندم الجند على ذلك، وسألوه أن يعود، فلم يفعل وأصعد إلى الموصل مع قرواش، فأخذ ملكه وإقطاعه بالعراق.
ثم إن نجدة الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا جمعاً كثيراً من عقيل، وانضم إليهم بدران أخو قرواش، وساروا يريدون حرب قرواش، وكان قرواش لما سمع خبرهم قد اجتمع هو وغريب بن مقن، والأثير عنبر، وأتاه مدد من ابن مروان، فاجتمع في ثلاثة عشر ألف مقاتل، فالتقوا عند بلد واقتتلوا، وثبت بعضهم لبعض، وكثر القتل، ففعل ثروان بن قراد فعلاً جميلاً، وذاك أنه قصد غريباً في وسط المصاف واعتنقه وصالحه، وفعل أبو الفضل بدران بن المقلد بأخيه قرواش كذلك، فاصطلح الجميع، وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة نصيبين.

.ذكر إحراق خفاجة الأنبار وطاعتهم لأبي كاليجار:

في هذه السنة سار منيع بن حسان أمير خفاجة إلى الجامعين، وهي لنور الدولة دبيس، فنهبها، فسار دبيس في طلبه إلى الكوفة، ففارقها وقصد الأنبار، وهي لقرواش كان استعادها بعد ما ذكرناه قبل. فلما نازلها منيع قاتله أهلها، فلم يكن لهم بخفاجة طاقة، فدخل خفاجة الأنبار ونهبوها، وأحرقوا أسواقها، فانحدر قرواش إليهم ليمنعهم، وكان مريضاً، ومعه غريب والأثير عنبر، إلى الأنبار ثم تركها ومضى إلى القصر، فاشتد طمع خفاجة، وعادوا إلى الأنبار فأحرقوها مرة ثانية.
وسار قرواش إلى الجامعين، فاجتمع هو ونور الدولة دبيس بن مزيد في عشرة آلاف مقاتل، وكانت خفاجة في ألف، فلم يقدم قرواش في ذلك الجيش العظيم على هذه الألف، وشرع أهل الأنبار في بناء سور على البلد، وأعانهم قرواش وأقام عندهم الشتاء، ثم إن منيع بن حسان سار إلى الملك أبي كاليجار، فأطاعه، فخلع عليه، وأتى منيع الخفاجي إلى الكوفة فخطب فيها لأبي كاليجار، وأزال حكم عقيل عن سقي الفرات.

.ذكر الصلح بإفريقية بين كتامة وزناتة وبين المعز بن باديس:

في هذه السنة وردت رسل زناتة وكتامة إلى المعز بن باديس، صاحب إفريقية، يطلبون منه الصلح، وأن يقبل منهم الطاعة والدخول تحت حكمه، وشرطوا أنهم يحفظون الطريق، وأعطوا على ذلك عهودهم، ومواثيقهم، فأجابهم إلى ما سألوا، وجاءت مشيخة زناتة وكتامة إليه، فقبلهم وأنزلهم ووصلهم، وبذل لهم أموالاً جليلة.

.ذكر وفاة حماد بن المنصور وولاية ابنه القائد:

في هذه السنة توفي حماد بن بلكين، عم المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وكان خرج من قلعته متنزهاً، فمرض ومات وحمل إلى القلعة فدفن بها، وولي بعده ابنه القائد، وعظم على المعز موته، لأن الأمر بينهما كان قد صلح، واستقامت الأمور للمعز بعده، وأذعن له أولاد عمه حماد بالطاعة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كان بالعراق برد شديد جمد فيه الماء في دجلة والأنهار الكبيرة، فأما السواقي فإنها جمدت كلها، وتأخر المطر وزيادة دجلة، فلم يزرع في السواد إلا القليل.
وفيها بطل الحج من خراسان والعراق.
وفيها انقض كوكب عظيم استنارت له الأرض، فسمع له دوي عظيم، كان ذلك في رمضان.
وفيها مات أبو سعد بن ماكولا، وزير جلال الدولة، في محبسه، وأبو خازم عمر بن أحمد بن إبراهيم العبدوي النيسابوري الحافظ، وهو من مشايخ خطيب بغداد، وأبو الحسن علي بن أحمد بن عمر الحمامي المقريء، مولده سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ثم دخلت:

.سنة ثماني عشرة وأربعمائة:

.ذكر الحرب بين علاء الدولة وأصبهبذ ومن معه وما تبع ذلك من الفتن:

في هذه السنة، في ربيع الأول، كانت حرب شديدة بين علاء الدولة بن كاكويه وبين الأصبهبذ ومن معه.
وكان سببها ما ذكرناه من خروج علي بن عمران عن طاعة علاء الدولة. فلما فارقه اشتد خوفه من علاء الدولة، فكاتب أصبهبذ صاحب طبرستان، وكان مقيماً بالري مع ولكين بن وندرين، وحثه على قصد بلاد الجبل، وكاتب أيضاً منوجهر بن قابوس بن وشمكير، واستمده، وأوهم الجميع أن البلاد في يده لا دافع له عنها.
وكان أصبهبذ معادياً لعلاء الدولة، فسار هو وولكين إلى همذان فملكاها وملكا أعمال الجبل، وأجليا عنها عمال علاء الدولة، وأتاهم عسكر منوجهر وعلي بن عمران، فازدادوا قوة، وساروا كلهم إلى أصبهان، فتحصن علاء الدولة بها، وأخرج الأموال، فحصروه، وجرى بينهم قتال استظهر فيه علاء الدولة، وقصده كثير من ذلك العسكر، وهو يبذل لمن يجيء إليه المال الجزيل ويحسن إليهم، فأقاموا أربعة أيام، وضاقت عليهم الميرة، فعادوا عنها.
وتبعهم علاء الدولة، واستمال الجوزقان، فمال إليه بعضهم، وتبعهم إلى نهاوند، فالتقوا عندها، واقتتلوا قتالاً كثر فيه القتلى والأسرى، فظفر علاء الدولة، وقتل ابنين لولكين في المعركة، وأسر الأصبهبذ وابنان له ووزيره، ومضى ولكين في نفر يسير إلى جرجان. وقصد علي بن عمران قلعة كنكور فتحصن بها، فسار إليه علاء الدولة، فحصره بها، وبقي أصبهبذ محبوساً عند علاء الدولة إلى أن توفي في رجب سنة تسع عشرة وأربعمائة.
ثم إن ولكين بن وندرين سار بعد خلاصه من الوقعة إلى منوجهر بن قابوس، وأطعمه في الري وملكها، وهون عليه أمر البلاد لا سيما مع اشتغال علاء الدولة بمحاصرة علي بن عمران، وانضاف إلى ذلك أن ولد ولكين كان صهر علاء الدولة على ابنته، وقد أقطعه علاء الدولة مدينة قم، فعصى عليه وصار مع أبيه، وأرسل إليه يحثه على قصد البلاد، فسار إليها ومعه عساكره، وعساكر منوجهر، حتى نزلوا على الري، وقاتلوا مجد الدولة بن بويه ومن معه، وجرى بين الفريقين وقائع استظهر فيها أهل الري. فلما رأى علاء الدولة ذلك صالح علي بن عمران.
فلما بلغ ولكين الصلح بين علاء الدولة وعلي بن عمران رحل عن الري من غير بلوغ غرض، فتوجه علاء الدولة إلى الري، وراسل منوجهر، ووبخه وتهدده، وأظهر قصد بلاده، فسمع أن علي بن عمران قد كاتب منوجهر وأطمعه، ووعده النصرة، وحثه على العود إلى الري، فعاد علاء الدولة عن قصد بلاد منوجهر، وتجهز لقصد علي بن عمران، فأرسل ابن عمران إلى منوجهر يستمده، فسير إليه ستمائة فارس وراجل مع قائد من قواده، وتحصن ابن عمران، وجمع عنده الذخائر بكنكور، وقصده علاء الدولة وحصره وضيق عليه، ففني ما عنده، فأرسل يطلب الصلح، فاشترط علاء الدولة أن يسلم قلعة كنكور والذين قتلوا أبا جعفر ابن عمه، والقائد الذي سيره إليه منوجهر، فأجابه إلى ذلك وسيرهم إليه، فقتل قتلة ابن عمه، وسجن القائد، وتسلم القلعة، وأقطع علياً عوضاً عنها مدنية الدينور، وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة فصالحه، فأطلق صاحبه.

.ذكر عصيان البطيحة على أبي كاليجار:

في هذه السنة عصى أهل البطيحة على الملك أبي كاليجار، ومقدمهم أبو عبد الله الحسين بن بكر الشرابي، الذي كان قديماً صاحب البطيحة، وقد تقدم خبره.
وكان سبب هذا الخلاف أن الملك أبا كاليجار سير وزيره أبا محمد بن بابشاذ إلى البطيحة، فعسف الناس وأخذ أموالهم، وأمر الشرابي فوضع على كل دار بالصليق قسطاً، وكان في صحبته، ففعل ذلك، فتفرقوا في البلاد، وفارقوا أوطانهم، فعزم من بقي على أن يستدعوا من يتقدم عليهم في العصيان على أبي كاليجار، وقتل الشرابي، وكانوا ينسبون كل ما يجري عليهم إلى الشرابي. فعلم الشرابي بذلك، فحضر عندهم، واعتذر إليهم، وبذل من نفسه مساعدتهم على ما يريدونه، فرضوا به، وحلفوا له، وحلف لهم، وأمرهم بكتمان الحال.
وعاد إلى الوزير فأشار عليه بإرسال أصحابه إلى جهات ذكرها ليحصلوا الأموال، فقبل منه، ثم أشار عليه بإحدار سفنه إلى مكان ذكره ليصلح ما فسد منها، ففعل. فلما تم له ذلك وثب هو وأهل البطيحة عليه، وأخرجوه من عندهم، وكان عندهم جماعة من عسكر جلال الدولة في الحبس، فأخرجوهم، واستعانوا بهم، واتفقوا معهم، وفتحوا السواقي، وعادوا إلى ما كانوا عليه أيام مهذب الدولة، وقاتلوا كل من قصدهم، وامتنعوا فتم لهم ذلك. ثم قصده ابن المعبراني فاستولى على البطيحة، وفارقها الشرابي إلى دبيس بن مزيد، فأقام عنده مكرماً.

.ذكر صلح أبي كاليجار مع عمه:

في هذه السنة استقر الصلح بين أبي كاليجار وبين عمه أبي الفوارس، صاحب كرمان، وكان أبو كاليجار قد سار إلى كرمان لقتال عمه وأخذ كرمان منه، فاحتمى منه بالجبال، وحمي الحر على أبي كاليجار وعسكره، فكثرت الأمراض، فتراسلا في الصلح، فاصطلحا على أن تكون كرمان لأبي الفوارس، وبلاد فارس لأبي كاليجار، ويحمل إلى عمه كل سنة عشرين ألف دينار.
ولما عاد أبو كاليجار إلى الأهواز جعل أمور دولته إلى العادل بن مافنة، فأجابه بعد امتناع، وكان مولد العادل بكازرون سنة ستين وثلاثمائة، وشرط العادل أن لا يعارض في الذي يفعله، فأجيب إلى ذلك.

.ذكر الخطبة لجلال الدولة ببغداد وإصعاده إليها:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، خطب للملك جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة ببغداد، وأصعد إليها من البصرة فدخلها ثالث شهر رمضان.
وكان سبب ذلك أن الأتراك لما رأوا أن البلاد تخرب، وأن العامة والعرب والأكراد قد طمعوا، وأنهم ليس عندهم سلطان يجمع كلمتهم، قصدوا دار الخلافة، وأرسلوا يعتذرون إلى الخليفة من انفرادهم بالخطبة لجلال الدولة أولاً، ثم برده ثانياً، وبالخطبة لأبي كاليجار، ويشكرون الخليفة حيث لم يخالفهم في شيء من ذلك، وقالوا: إن أمير المؤمنين صاحب الأمر، ونحن العبيد، وقد أخطأنا ونسأل العفو، وليس عندنا الآن من يجمع كلمتنا، ونسأل أن ترسل إلى جلال الدولة ليصعد إلى بغداد، ويملك الأمر، ويجمع الكلمة، ويخطب له فيها، ويسألون أن يحلفه الرسول السائر لإحضاره لهم. فأجابهم الخليفة إلى ما سألوا، وراسله هو وقواد الجند في الإصعاد واليمين للخليفة والأتراك، فحلف لهم، وأصعد إلى بغداد، وانحدر الأتراك إليه، فلقوه في الطريق، وأرسل الخليفة إليه القاضي أبا جعفر السمناني، فأعاد تجديد العهد عليه للخليفة والأتراك، ففعل.
ولما وصل إلى بغداد نزل النجمي، فركب الخليفة في الطيار وانحدر يلتقيه، فلما رآه جلال الدولة قبل الأرض بين يديه، وركب في زبزبه، ووقف قائماً، فأمره الخليفة بالجلوس، فخدم وجلس ودخل إلى دار المملكة، بعد أن مضى إلى مشهد موسى بن جعفر فزار، وقصد الدار فدخلها، وأمر بضرب الطبل أوقات الصلوات الخمس، فراسله الخليفة في منعه، فقطعه غضباً، حتى أذن له في إعادته ففعل.
وأرسل جلال الدولة مؤيد الملك أبا علي الرخجي إلى الأثير عنبر الخادم، وهو عند قرواش، وقد ذكرنا ذلك، يعرفه اعتضاده به، واعتماده عليه، ومحبته له، ويعتذر إليه عن الأتراك، فعذرهم وقال: هم أولاد وإخوة.

.ذكر وفاة أبي القاسم بن المغربي وأبي الخطاب:

أما أبو القاسم بن المغربي فتوفي هذه السنة بميافارقين، وكان عمره ستاً وأربعين سنة، ولما أحس بالموت كتب كتباً عن نفسه إلى كل من يعرفه من الأمراء والرؤساء الذين بينه وبين الكوفة، ويعرفهم أن حظية له توفيت، وأنه قد سير تابوتها إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، وخاطبهم في المراعاة لمن في صحبته. وكان قصده أن لا يتعرض أحد لتابوته بمنع، وينطوي خبره. فلما توفي سار به أصحابه، كما أمرهم، وأوصلوا الكتب، فلم يعرض أحد إليه، فدفن بالمشهد، ولم يعلم به أحد إلا بعد دفنه.
ولأبي القاسم شعر حسن، فمنه هذه الأبيات:
وما ظبية أدماء تحنو على طلاً، ** ترى الإنس وحشاً وهي تأنس بالوحش

غدت فارتعت ثم انثنت لرضاعه، ** فلم تلف شيئاً من قوائمه الحمش

فطافت بذاك القاع ولهى، فصادفت ** سباع الفلا ينهشنه أيما نهش

بأوجع مني يوم ظلت أنامل ** تودعني بالدر من شبك النقش

وأجمالهم تحدى وقد خيل الهوى ** كأن مطاياهم على ناظري تمشي

وأعجب ما في الأمر أن عشت بعدهم، ** على أنهم ما خلفوا لي من بطش

وأما أبو الخطاب حمزة بن إبراهيم فإنه مات بكرخ سامرا مفلوجاً، غريباً، قد زال عنه أمره وجاهه، وكان مولده سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ورثاه المرتضى، وكان سبب اتصاله ببهاء الدولة معرفة النجوم، وبلغ منه منزلة لم يبلغها أمثاله، فكان الوزراء يخدمونه، وحمل إليه فخر الملك مائة ألف دينار فاستقلها، وصار أمره إلى ما صار من الضيق والفقر والغربة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة سقط في العراق جميعه برد كبار يكون في الواحدة رطل أو رطلان، وأصغر كالبيضة، فأهلك الغلات، ولم يصح منها إلا القليل.
وفيها آخر تشرين الثاني هبت ريح باردة بالعراق جمد منها الماء والخل، وبطل دوران الدواليب على دجلة.
وفيها انقطع الحج من خراسان والعراق.
وفيها نقضت الدار المعزية، وكان معز الدولة بن بويه بناها وعظمها، وغرم عليها ألف ألف دينار، وأول من شرع في تخريبها بهاء الدولة، فإنه لما عمر داره بسوق الثلاثاء نقل إليها من أنقاضها، وأخذ سقفاً منها وأراد أن ينقله إلى شيراز، فلم يتم ذلك، فبذل فيه من يحك ذهبه ثمانية آلاف دينار، ونقضت الآن، وبيع أنقاضها.
وفيها توفي هبة الله بن الحسن بن منصور أبا القاسم اللالكائي الرازي، سمع الحديث الكثير، وتفقه على أبي حامد الأسفراييني، وصنف كتباً، وأبو القاسم طباطبا الشريف العلوي، وله شعر جيد، فمنه أن صديقاً له كتب إليه رقعة على ظهرها هذه الأبيات:
وقرأت الذي كتبت، وما زا ** ل نجيي ومؤنسي وسميري

وغدا الفأل بامتزاج السطور ** حاكماً بامتزاج ما في الضمير

واقتران الكلام لفظاً وخطاً ** شاهداً باقتران ود الصدور

وتبركت باجتماع الكلامي ** ن رجاء اجتماعنا في سرور

وتفاءلت بالظهور على الوا ** شي، فصارت إجابتي في الصدور ثم دخلت: